فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد ذهبتْ بَشاشتهُ وأودَى ** فَقُم بأَبيك فابكِ على الشَباب

فليسَ بعائدٍ ما فاتَ منهُ ** إلى أحدٍ إلى يوم المآب

إلى يومٍ يؤوب الناسُ فيه ** إلى دُنياهُمِ قبل الحساب

أدين بأنّ ذاك كذاك حقا ** وما أنا في النشور بذي ارتياب

لأنَّ الله خَبَّر عن رِجالٍ ** حَيُوا من بعد دَسٍّ في التُّراب

وقال يرثيِ أخاه:
يابن أمِّي فدَتْكَ نفسي ومالي ** كنتَ رُكني ومَفْزعي وَجَمالي

ولَعَمْرِي لئن تركْتُك مَيْتًا ** رَهْنَ رَمْس ضَنْكٍ عليك مُهالَ

لوشيكًا ألقاك حيًا صحيحًا ** سامِعًا مُبْصَرًا على خير حال

قد بُعثتم من القُبور فَأبْتُم ** بعد ما رَفَت العِظامَ البَوالي

أو كَسَبْعين وافدًا مع مُوسى ** عاينُوا هائلًا من الأهْوال

حين رامُوا من خُبثهم رُؤية الله ** وأنىَّ برُؤية المتعالي

فرَماهم بصَعْقة أحْرقتهم ** ثم أحياهُم شديدُ المحال

دخل رجل من الْحِسْبانيّة على المأمون، فقال: لثُمامة بن أشرس كلِّمه؟ فقال له: ما تقول وما مَذْهبك؟ فقال: أقول إنّ الأشياء كلّها على التوهُّم والْحِسْبان، وإنما يُدْرك منها الناسُ على قَدْر عقولهم، ولا حتَّى في الحقيقة. فقام إِليه ثُمامة، فَلَطَمه لطمةً سوَدت وَجْهه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، يفعل بي مثلَ هذا في مجلسك! فقال له ثُمامة: وما فعلتُ بك؟ قال: لَطَمْتني، قال: ولعلَّ إنما دَهَنتُك بالبان، ثم أنشأ يقول:
ولَعلَّ آدمَ أمنا ** والأب حوّا في الْحِسابْ

ولعلَّ ما أبصرتَ من ** بِيض الطيور هو الغُراب

وعَساك حين قَعدتَ قم ** تَ وحين جئتَ هو الذّهاب

وعَسى البنفسج زِئْبقًا ** وعسى البَهار هو السَّذاب

وعَساك تأكل مِن خَرَا ** ك وأنتَ تَحْسبه الكَباب

ومن حديث ابن أبي شَيْبة أن عبد الله بن شدِّاد قال: قال لي عبد الله بن عبَّاس: لأخبرنَّك بأعجب شيء: قَرَع اليومَ علي البابَ رجلٌ لما وضعتُ ثيابي للظَّهيرة، فقلتُ: ما أتى به في مثل هذا الحين إلا أمرٌ مهمّ، أدخله. فلما دخل قال: متى يُبعث ذلك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: عليّ بن أبي طالب؟ قلتُ: لا يُبعث حتىِ يَبعث الله مَن في القبور، قال: وإنك لتقول بقول هذه الجَهلة! قلت: أَخْرِجُوه عني لعنه الله.
ومن الروافض الكَيْسانية، قلتُ: وهم أصحاب المُختار بن أبي عُبيد، ويقولون إنّ اسمه كَيْسان.
ومن الرافضة الحُسينية، وهم أصحاب إبراهيم بن الاشتر، وكانوا يطوفون بالليل في أزقة الكوفة وينادون: يا ثاراتِ الحسين؛ فقيل لهم: الحُسينية.
ومن الرافضة الغُرابية: سمِّيت بذلك لقولهم: عليّ أشبه بالنبي من الغُراب بالغراب.
ومن الرافضة: الزَّيْدِية، وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخُراسان، وهم أقلُّ الرافضة غُلُوًّا، غيرَ أنّهم يَرَوْن الخُروج مع كل مَن خرج.
مالك بن مُعاوية قال: قال لي الشّعبيِ، وذَكَرْنا الرافضة: يا مالك، لو أردتُ أن يُعطوني رقابَهم عَبيدًا وأن يَمْلئوا بيتي ذَهَباَ عليً على أن أكْذِبَ لهم على علّيِ كِذْبَةً واحدةً لَقَبِلوا، ولكني والله لا أَكْذِب عليه أبدًا، يا مالك، إني دَرسْتُ الأهواءَ كلَّها فلم أَرَ قومًا أحمقَ من الرافضة، فلو كانوا من الدوابّ لكانوا حميرًا، أو كانوا من الطير لكانوا رَخَمًا. ثم قال: أحذِّرك الأهواءَ المُضلة شرُّها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يُبغضون الإسلام، كما يُبغض اليهودُ النَّصرِانية، ولم يدْخلوا في الإسلام رغبةً ولا رَهْبة من الله، ولكن مَقْتًا لأهل الإسلام وبَغْياَ عليهم، وقد أحرَقهم عليًّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم إلى البُلْدان، منهم: عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن سباب، نفاه إلى الجازر، وأبو الكَرَوَّس، وذلك أن مِحْنة الرافضة محنة اليهود، قالت اليهود: لا يكون المُلك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون المُلك إلا في آل عليّ بن أبي طالب، وقالت اليهود: لا يكون جِهاد في سبيل الله حتى يَخْرج المَسيح المُنتظر، ويُنادي منادٍ من السماء، وقالت الرافضة: لا جِهادَ في سبيل الله حتى يخرُج المَهديُّ، ويَنْزل سَبَب من السماء، واليَهود يُؤخِّرون صلاةَ المَغرِب حتى تَشتبك النّجوم، وكذلك الرافضة، واليَهود لا تَرى الطَّلاق الثلاثَ شيئاَ، وكذا الرَّافضة واليهود لا تَرى على النساء عدة وكذلك الرافضة، واليهود تستحل دم كل مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفت القران، واليهود تُبْغض جبريلَ وتقول: هو عَدوُّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غَلط جبريلُ في الوَحْي إلى محمد بترك عليّ بن أبي طالب، واليهود لا تأكُل لَحم الجَزُور، وكذلك الرافضة. ولليهود والئصارى فَضِيلة على الرافضة في خَصْلتين، سُئِل اليهود مَن خَيْر أهل مِلّتكم؟ فقالوا:
أصحابُ موسى، وسُئِلت النصارى، فقالوا: أصحابً عيسى، وسُئِلت الرِافضة: مَن شرّ أهل مِلّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمّد، أمَرهم اللهّ بالاستغفار لهم فشَتَموهم، فالسيفُ مَسْلول عليهم إلى يوم القيامةِ، لا تَثبُت لهم قدم، ولا تَقومُ لهم راية، ولا تُجمع لهم كِلمة، دَعْوَتُهم مَدْحورة، وكَلِمتهم، مِختلفة، وجَمْعهم مُفرَّق، كلما أَوْقدُوا نارًا للحرب أطْفأها الله.
وذُكرت الرّافضةُ يومًا عند الشعْبِيّ فقال: لقد بغَّضُوا إلينا حديثَ عليّ بن أبي طالب.
وقال الشّعبيّ: ما شَبَّهتُ تأويلَ الرِوافض في القرآن إلا بتأويل رَجل مَضْعوف من بني مَخْزوم من أهل مكّة وجدتُه قاعداَ بفِناء الكَعْبة، فقال يا شعبيّ: ما عِنْدك في تأويل هذا البَيْت؟ فإن بَني تَميم يَغْلطون فيه ويزعمون أنه إنما قيل في رجل منهم، وهو قولُ الشاعر:
بَيْتًا زُرَارةُ محْتَبِ بِفِنائه ** ومُجاشع وأَبو الفَوارس نَهْشلُ

فقلت له: وما عِندَك أنت فيه؟ قال: البيتُ هو هذا البيت، وأشار بيده إلى الكَعْبة، وزُرارةُ الحجر، زُرِّر حول البيت؟ فقلت له: فَمُجاشع؟ قال: زَمزم جَشِعت بالماء؟ قلت: فأَبُو الفوارس؟ قال: هو أبو قُبيس جَبل مكَّة؟ قلت: فَنَهْشل؟ ففكّر فيه طويلا ثم قال: أَصبتُه، هو مِصْباح الكعبة طويلٌ أَسود، وهو النَّهشل.

.قولهم في الشيعة:

قال أبو عُثمان عمرو بِن بَحر الجاحظ: أخبرني رجلٌ من رُؤساء التجّار قال: كان معنا في السَّفينة شيخٌ شرس الأخلاق، طويلُ الِإطْراق، وكان إذا ذُكِر له الشِّيعةُ غَضِب واربدّ وجهُه وزَوى من حاجبَيْه، فقلتُ له يومًا: يَرْحمك الله، ما الذي تَكْرهه من الشِّيعة فإني رأيتُك إذا ذُكِروا غَضِبْتَ وقُبضتَ؟ قال: ما أَكْره منهم إلا هذه الشِّين في أوّل اسمهم، فإني لم أجِدْها قطُّ إلا في كلَّ شرّ وشُؤْم وشَيْطان وشَغب وشَقَاء وشَنَار وشَرَر وشَين وشَوْك وشَكْوى وشَهْوة وشَتْم وشُح. قال أبو عثمان: فما ثَبت لِشيعيّ بعدها قائمة. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ}:

.قال الفخر:

قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتباهل، كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا، والابتهال فيه وجهان:
أحدهما: أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء، وإن لم يكن باللعن، ولا يقال: ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد.
والثاني: أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله، أي لعنته وأصله مأخوذ مما يرجع إلى معنى اللعن، لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله، أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها، بل هي مرسلة مخلاة، كالرجل الطريد المنفي، وتحقيق معنى الكلمة: أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنسانًا، فقال: علي بهلة الله إن كان كذا، يقول: وكلني الله إلى نفسي، وفرضني إلى حولي وقوتي، أي من كلاءته وحفظه، كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها، فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها، ويقال أيضا: رجل باهل، إذا لم يكن معه عصًا، وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه، والقول الأول أولى، لأنه يكون قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير: ثم نبتهل، أي ثم نلتعن {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} وهي تكرار. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} قال ابنُ عبّاس: نتضرع في الدعاء.
وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة: نَلتعن. والابتهال: افتعال، من البُهْلَة، وهي- بفتح الباء وضمها- اللعنة، قال الزمخشريُّ: ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة- بالفتح والضم- اللعنة، وبَهَلَه الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صِرَارَ عليها، أي: مرسلة مُخَلاَّة- كالرجل الطريد المنفي- وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية، فمن بهله الله فقد خلاه، ووكله إلى نفسه، فهو هالك لا شك فيه- كالناقة الباهل التي لا حافظ لها، فمن شاء حلبها، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه- وإن لم يكن التعانًا- يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يبتهل إلى الله- تعالى- في قضاء حاجته، ويبتهل في كشف كربته.
قال شهاب الدّين: ما أحسن ما جعل الافتعال- هنا- بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك، وتفاعل وافتعل أخوان في مواضع، نحو اجتوروا وتجاوروا، واشتوروا وتشاوروا، واقتتل القوم وتقاتلوا، واصطحبوا وتصاحبوا، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا.
قال الراغبُ: وأصل البهل: كون الشيء غيرَ مراعى، والباهل: البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ، وأنشد لامرأة: أتيتك باهلًا غير ذات صِرار.
وأبهلت فلانًا: خليته وإرادته؛ تشبيهًا بالبعير الباهل، والبهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع، نحو: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل} ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكأن لاجل اللعن.
قال الشاعر (وهو لبيد): [الرمل]
مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ ** نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ

وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء- لعنًا كان أو غيره- ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن، ثم تُجُوِّز فيه، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء- لعنًا كان، أو غيره- والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب.
قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته: [الرجز]
لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَامًا بُهَّلا ** تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى

بهلًا جمع باهلة- أي: مهملة، وفاعلة تجمع على فُعَّل، نحو ضُرَّب. والسُّدَى: المهمل- أيضا- وأتى بثُمَّ هنا، تنبيهًا على خطئهم في مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي.
قوله: {فَنَجْعَل} هي المتعدية لاثنين- بمعنى نصير- و{عَلَى الكاذبين} هو المفعول الثاني. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
قيل: وفي هذه الآية ضروب من البلاغة: منها إسناد الفعل إلى غير فاعله، وهو: {إذ قال الله يا عيسى} والله لم يشافهه بذلك، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة.
والاستعارة في: {متوفيك} وفي: {فوق الذين كفروا} والتفصيل لما أجمل في: {إليّ مرجعكم فأحكم} بقوله: فأما، وأمّا، والزيادة لزيادة المعنى في {من ناصرين} أو: المثل في قوله: {إن مثل عيسى}.
والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله: {نتلوه} وفي {فيكون} وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في {كمثل آدم} وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في {خلقه من تراب}.
وخطاب العين، والمراد به غيره، في {فلا تكن من الممترين}.
والعام يراد به الخاص في {ندع أبناءنا} الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال، والحذف في مواضع كثيرة. اهـ.

.أسئلة وأجوبة للفخر:

السؤال الأول: الأولاد إذا كانوا صغارًا لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه؟.
والجواب: إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقابًا، وفي حق الصبيان لا يكون عقابًا، بل يكون جاريًا مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جدًا فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم، وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه.
السؤال الثاني: هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم؟.
الجواب: أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين:
أحدهما: وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقًا بذلك، لكان ذلك منه سعيًا في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير: أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملًا يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقًا بنزول العذاب عليهم.
وثانيهما: إن القوم لما تركوا مباهلته، فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته، وإلا لما أحجموا عن مباهلته.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنهم كانوا شاكين، فتركوا مباهلته خوفًا من أن يكون صادقًا فينزل بهم ما ذكر من العذاب؟.
قلنا هذا مدفوع من وجهين:
الأول: أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك.
الثاني: أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا: أنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحًا منهم بأن الامتناع عن المباهلة كأن لاجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
السؤال الثالث: أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد صلى الله عليه وسلم؟ حيث قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] ثم أنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة، فكذا هاهنا، وأيضا فبتقدير نزول العذاب، كان ذلك مناقضًا لقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
والجواب: الخاص مقدم على العام، فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك.
السؤال الرابع: قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} هل هو متصل بما قبله أم لا؟.
والجواب: قال أبو مسلم: أنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله: {الكاذبين} وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق إن أن تكون مفتوحة، إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله: {لَهُوَ} كما في قوله: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} [العاديات: 11] وقال الباقون: الكلام تم عند قوله: {عَلَى الكاذبين} وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها، والله أعلم. اهـ.